اتهام المخابرات الأمريكية بتصفية رفعت المحجوب
الإثنين,كانون الأول 10, 2007
اتهام المخابرات الأمريكية بتصفية رفعت المحجوب
اتهام المخابرات الأمريكية
بتصفية رفعت المحجوب
عند فندق سميراميس كان علي السيارة أن تهدئ من سرعتها حتي تنحرف في اتجاه الكورنيش في طريقها إلي الميريديان.. وفي تلك اللحظات الخاطفة خرج من تحت الأرض أربعة شبان لا يزيد أكبرهم علي 25 سنة.. يركبون درجتين بخاريتين ويحملون أسلحة آلية سارعوا بحصار السيارتين ثم ترجلوا وراحوا يطلقون النار علي من فيهما بلا رحمة.. ومن بين 400 طلقة خرجت من أسلحتهم استقرت ثمانين طلقة في جسد الدكتور رفعت المحجوب وحارسه الشخصي الجالس إلي جواره المقدم عمرو سعد الشربيني وسائقه كمال عبد المطلب وموظف بمجلس الشعب هو عبد العال علي رمضان.
نفذت العملية بدرجة عالية من الاحتراف.. واستقل الجناة الموتوسيكلين وهربوا في الاتجاه المعاكس لحركة المرور إلا واحدا منهم لم يتمكن من اللحاق بهم فأجبر سائق تاكسي علي الركوب معه.. وعند إشارة فندق رمسيس نزل من السيارة الأجرة شاهرا سلاحه فحاول بعض المواطنين الإمساك به إلا أنه أكمل مهمة إطلاق النار واستغل زحام يوم الجمعة في منطق المول التجاري للفندق وتسلل منها إلي خبايا المنطقة العشوائية القريبة واختفي.
كان هناك ضحية أخري ساقها قدرها لحتفها هو العميد عادل سليم بمباحث القاهرة.. تلقي بلاغا بغرق شاب في النيل فجاء هو والملازم أول حاتم حمدي إلي مكان الحادث وعرف من الأهالي بالمتهم الهارب فراح يطارده بسيارته وهو في سيارة التاكسي ولحق به في إشارة المرور القريبة من هيلتون رمسيس وتصدي له فأفرغ فيه دفعة رشاش قتلته في الحال واصابت مساعده.
بعد ساعات عقد وزير الداخلية مؤتمرا صحفيا بدا فيه مرتبكا وضعيفا ومثيرا للسخرية فهو يسمي الوفد السوري بالوفد الكوري.. وهو مرة يتهم التنظيمات الإرهابية العربية ومرة يتهم الجماعات الإسلامية الداخلية.. وتحولت لحظات إعلانه حل مجلس الشعب إلي جنازة حكومية حزينة.
أجمع شهود العيان علي أن الجناة ليسوا مصريين.. قال مورو محمد فهمي موظف بشركة لتأجير السيارات كان يقف بالقرب من فندق سميراميس: "ملامح الجناة ليست مصرية".. وقال صلاح إسماعيل الموظف بهيلتون رمسيس: "المتهم الهارب كانت لهجته شامية".. ونشرت الصحف رسومات تخيلية للجناة بدت فيها ملامحهم خليجية أو فارسية.. ونسبت مجلة المصور لمصدر أمني أن التحقيقات تشير إلي أن الجريمة قادمة من الخارج.
علي أن الأهم هو دقة المعلومات التي عرفها الجناة وسهلت لهم الجريمة.. فقد عرفوا بموعد اللقاء بين الدكتور رفعت المحجوب ورئيس البرلمان السوري.. وعرفوا الطريق الذي سيسلكه الضحية ولحظة وصوله إلي المكان المتفق عليه لإطلاق النار عليه.. فكيف تيسر لهم ذلك؟.. بل اللافت للنظر أن الطريق أغلق في وجه وزير الداخلية وهو في طريقه إلي مكتبه ثم فتح ليمر منه رئيس مجلس الشعب السابق ليلقي حتفه.
لكن.. أجهزة الأمن قبضت علي مئات من أعضاء الجماعات الإسلامية المتشددة تلافيا للحرج الذي شعرت به وقدمت 27 منهم إلي محكمة أمن دولة العليا طوارئ في 10 يونيو 1991 وبعد 100 جلسة انتهت المحكمة إلي قرارها في 10 يونيو 1993 إلي براءة 17 متهما وسجن عشرة من 3 إلي 15 سنة بتهم ليست لها علاقة بجريمة القتل.. منها التزوير وإحراز مفرقعات وأسلحة وكارنيهات نقابة المحامين.
لم تأخذ المحكمة باعترافات المتهمين خاصة طالب الهندسة وقتها محمد النجار الذي قبض عليه أمام كليته في يوم 27 أكتوبر 1990 بعد أن شاهد زميلين له يسقطان قتلي برصاص الشرطة.. بل إنه هو نفسه أصيب برصاصة في رقبته.. وقالت حيثيات الحكم: "إن الشرطة كان يسهل عليها قتله لكنها ردت إليه حياته حتي يكون تحت سيطرتها ينفذ مطيعا ما يطلب منه وما يؤمر به.. بل كان يزيد علي رجالها تطوعا وتزلفا فضلا عن التعذيب الذي كان يتعرض له حتي جعلوا منه راويا للأقاويل التي يلقنونها له ليدلي بها في التحقيقات معتمدا علي ذاكرته الحافظة التي وهبها الله له كما صنعوا منه شاعرا يقرض الشعر في خلواته التي اختاروها له بمستشفي سجن ليمان طرة وكاتبا لمذكراته التي تملي عليه وصنعوا منه ممثلا يتظاهر بالمرض ويتقن دوره بأنه كان مصابا بأعراض التهاب الزائدة الدودية حتي لا ينقل إلي جهة التحقيق ثم يبل فجأة من مرضه ويبدي استعداده لاستجواب استمر أياما متلاحقة دون أن يشكو مرضا أو يبدي تعبا بل ومتنازل عن الضمانات التي كفلها له القانون ثم يطلب منه أن يعيد تمثيل الحادث فيمثل ويجيب ثم صنعوا منه دليلا ومرشدا لأوكار المتهمين وقام بكل هذه الأدوار دون تعب أو كلل أو ملل أملا في وعد بتسفيره إلي الخارج أو وعيد بتعذيب يلحق به إذا خرج عن الدور المرسوم له".
لكن.. محمد النجار في الجلسات الأخيرة من المحاكمة تراجع عن كل ما قال صارخا: "إنهم يضربونني في مكان لا أعرفه، يأخذونني من السجن إليه والاعترافات التي أدليت بها كلها بناء علي كلام لضباط أمن الدولة الذين أملوني الإجابات والشهادات".
وحاول شهود الإثبات من ضباط امن الدولة الإيحاء بأن قتل الدكتور رفعت المحجوب كان رد فعل لاحتجاز زوجات أمراء الجماعات الإرهابية قبل الحادث بنحو شهرين ونصف الشهر.. ومنهن السيدة فاطمة معوض زوجة صفوت عبدالغني المتهم الأول في القضية والسيدة وحدة عبد المقصود زوجة عبود الزمر.. ولكن.. الشهود لم يتعرفوا علي واحد من المتهمين الذين عرضتهم عليهم المحكمة.
علي أن المفاجأة الأكبر هي التي فجرها الرائد محمد بركات واشار إليها منتصر الزيات في كتابه عن القضية والذي تغير عنوانه من "احنا اللي قتلنا المحجوب" إلي "من قتل المحجوب" بعد حذف فقرات منه.. لقد اقتصر دور أمن الدولة في عملية القبض علي محمد النجار علي تأمين المكان وتولت جهة غامضة مجهولة قيادة وإدارة العملية.. وبالتالي هي التي ضبطت محمد النجار.. وتساءل منتصر الزيات:"لو كانت هذه الجهة مصرية لما خفيت علي الشهود لأن جهات الأمن المصرية علي تعددها تعرف بعضها البعض.. إذن فمن الذي قبض علي محمد النجار؟.. هل هو الموساد؟ أم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي أيه) التي لها باع طويل في انتهاك حرمة مصر وسيادتها كما حدث في قضية ثورة مصر وغيرها.. كما أن بعض أمناء الشرطة أكدوا في التحقيقات وجود جهة أخري لا يعرفونها ولكن كان هناك اتصال لاسلكي بها".
ويستشهد الدفاع في القضية بسر كشفه الصحفي رائد العطار في مقال نشره بصحيفة النور هو أن الرئيس حسني مبارك عندما سافر آخر مرة إلي العراق لمقابلة صدام حسين قبل غزو الكويت في بداية أغسطس من العام نفسه الذي قتل فيه الدكتور رفعت المحجوب كي يتوسط بينه وبين الكويت جري خلاف بينهما حول استراتيجية التحرك في مجلس التعاون العربي ـ الذي كان يضم مصر والأردن والعراق ـ إذ طرح سؤال هو: هل تتحمل المنطقة ـ في هذه المرحلة الحرجة ـ بروز زعيم يفرض إرادته وقيادته علي زملائه وجيرانه أم من الأفضل مراعاة الحسابات والحساسيات والتنسيق في إطار القيادة الجماعية المشتركة؟.
ويستطرد الكاتب: إن الرئيس حسني مبارك كان من أنصار القيادة الجماعية بينما كان الرئيس صدام حسين من أنصار الزعامة التاريخية الفردية.. وقد اضاف: إن هذا ليس رأيي وانما رأي الرجل الثاني في مصر.. وهو مسجل علي شريط كاسيت.. وأدار الرئيس العراقي جهاز كاسيت بجواره فخرج صوت الدكتور رفعت المحجوب وهو يقول له:"إن المنطقة تحتاج إلي زعيم يملأ مكان جمال عبد الناصر ويلم شمل الدول العربية وليس هناك غيرك".
ويخرج الدفاع من ذلك بنتيجة تعني أن الدكتور رفعت المحجوب كان يقف ضد المخططات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة فكان لابد من التخلص منه قبل أن تشن الولايات المتحدة حرب الخليج الثانية في يناير التالي لاغتياله.
ولا أحد يملك دليلا علي صدق هذه الرواية ولكن شخصية الدكتور رفعت المحجوب القوية وتوجهاته القومية تجعل من الممكن قبولها أو علي الأقل تجعل منه معارضا للحرب علي العراق وتحطيمه وحصاره حسب المخططات الأمريكية والإسرائيلية التي جري تنفيذها فيما بعد.
لقد ولد الدكتور رفعت المحجوب في 23 إبريل عام 1926 بقرية الزرقة التابعة لمحافظة دمياط وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1948 واكمل دراساته العليا حتي حصل علي الدكتوراة في الاقتصاد عام 1953 وتدرج في الوظائف الأكاديمية حتي أصبح عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وفي الوقت نفسه تدرج في العمل السياسي ليتولي أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي العربي ثم أمينا أول له ثم أمينا للجنته المركزية.. وبجانب ذلك أصبح وزيرا برئاسة الجمهورية وقت أن كان أنور السادات حاكما للبلاد وبعد اغتياله بأربع سنوات عين عضوا بمجلس الشعب وانتخب رئيسا له.. ثم أعيد انتخابه لنفس المنصب مرة أخري.. وكان متوقعا أن يستمر فيه بعد حل المجلس وانتخابه من جديد لولا اغتياله في يوم الاستفتاء علي الحل.
إن إيمانه بالقومية العربية والاشتراكية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وشخصيته القوية جعلت منه رجلا يحسب له ألف حساب ويصعب التخلص منه إلا بالقتل فوجوده يقف حائلا ضد التغييرات الحادة التي كان علي النظام السياسي في مصر القيام بها.. خاصة التغييرات الداخلية التي تتجاوز في أهميتها وخطورتها تصوراته القومية.. لقد نسب إليه وصف القطط السمان في إشارة واضحة منه للفساد الذي استشري.. فكانت إزاحته فرصة لأن تتحول القطط إلي أفيال وديناصورات وباقي الفصائل الضخمة التي أصبحت قائمة مثل الخرتيت وسيد قشطة والحمار الوحشي.
وقد تجاوز الدكتور رفعت المحجوب مرحلة التعبيرات البلاغية إلي مرحلة المواقف البرلمانية والسياسية.. فقبل اغتياله بنحو عامين.. وبالتحديد في فبراير 1988 نشبت مواجهة بينه وبين وزير السياحة في ذلك الوقت فؤاد سلطان ــ الذي كان أول من نادي بالخصخصة ــ تحت قبة البرلمان بسبب هدم وبيع أرض فندق سان ستيفانو في الإسكندرية.. وقال وهو رئيس لمجلس الشعب: "اليوم حنسمح ببيع الفنادق، بكره نسمح ببيع المصانع والشركات والمستشفيات".
وعلق جمال عصام الدين في صحيفة الأهرام نفسها: إن اغتيال الدكتور رفعت المحجوب قد"فتح الباب علي مصراعيه بعد ذلك لمرور جميع قوانين السوق والخصخصة من مجلس الشعب وكأنه كان هو العائق لمرورها".
لقد كان التخلص من الدكتور رفعت المحجوب ضرورة فرضتها قوي داخلية وإقليمية وعالمية لتغيير شكل الحياة في مصر من الاشتراكية إلي الرأسمالية.. ومن القطاع العام إلي الخصخصة.. ولتغيير شكل التفاهم في المنطقة من تحالف القومية إلي تفتت الانعزالية.. ومن معاداة إسرائيل إلي الصلح معها.
وما ضاعف من تأثيره أن نظامي حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك كانا يحترمانه ويأخذان باقتراحاته.. ويستجيبان لنصائحه.. فهو عالم في تخصصه.. مؤثر في شخصيته.. جرئ في تصرفاته.. ويصعب علي منافسيه إقناع رءوس السلطة بإزاحته.. فلم يكن هناك مفر من قتله علنا لتفتح الطرق المسدودة وتنطلق المخططات المدروسة لتصبح أمورا واقعة ونافذة وهو ما نراه الآن واضحا.. صارخا.. صاخبا.
وقد كان اغتياله في اليوم المناسب لهذه المخططات تماما.. يوم إعلان الاستفتاء علي حل مجلس الشعب.. والتمهيد لانتخابات جديدة كانت ستأتي به رئيسا له لثالث مرة.. فيقف كالعقلة في الزور لدورة برلمانية جديدة.. تتعطل فيها مصالح تستعد للفوز بالغنيمة.. وتتجمد قوي مستعدة للوثوب والانطلاق والسيطرة.. وتتوقف فيها تغييرات مستعدة للتحولات الحادة والانقلابات الحادة.
بل أخطر من ذلك قيل إنه عين نائباً للرئيس قبل وفاته بساعات وإن ذلك عجل بإطلاق الرصاص عليه حتي لا يتسلم منصبه الجديد الرفيع.. وأكدت مصادر مختلفة ذلك القرار الذي جعل المحكمة التي نظرت قضية اغتياله ترسل خطابا لرئاسة الجمهورية تسألها عن حقيقة صدوره.. وكان طبيعيا أن تكون الإجابة بالنفي.. فمثل هذه الأسئلة لهذه الجهة في هذه الظروف لابد أن تكون علي النحو الذي قدمته رسميا.
لقد كان قتل الرئيس أنور السادات مرحلة جديدة لتحولات حادة في المنطقة العربية وكان قتل رفعت المحجوب مرحلة جديدة لتحولات حادة في السياسة الداخلية.. إن ما لا يقدر عليه بائع الحرير يقدر عليه نافخ النار.
======نقلا عن جريدة الفجر المصرية
العدد 129 الاثنين 3/12/2007مhttp://www.elfagr.org/TestAjaxNews.aspx?nwsId=7708&secid=2261
كتبها mohamedabdalalim محمدعبدالعليم في 12:26
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home