محمدعبدالعليم mohamedabdalalim

طالما توجد حياة.. تتولد المشكلات التى ينبغى علينا بذل الجهد فى محاولة حلها والتغلب عليها وتجاوزها ..لنصل الى مانصبو إليه من مجتمع خال من الإرث الطويل لعويل الضعفاء وانين المظلومين ..فما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط محمدعبدالعليم

السبت، يونيو 09، 2007

محسن خضر أخى و صديق عمري


محسن خضر أخى و صديق عمري
الدكتور محسن خضر صديق العمر ورفيق الفكر
هذه قصة كتبها ونشرتها جريدة الاهرام القاهرية يوم الجمعة الموافق 1/6/2007
فاسمحوا لي ان انشرها..
هنا
فقد كانت لنا وقفات متعددة صارت ذكريات متجددة
واليكم القصة الرائعة
=================

لم يعد شيء يبهجنا

**************************بقلم: محسن خضر

****************
تماما‏,‏ تماما‏,‏ كأنني أراها للمرة الأولي‏.‏ عشت عمرا انتظر هذه اللحظة‏,‏ أن يكتسي الطيف لحما وعظاما‏.‏ أن أمد يدي فأصافحها‏,‏ وعيني فأحتويها‏,‏ وأنفي ليشمها‏.‏كانت المناسبة مرور ربع قرن علي تخرج دفعتنا الجامعية‏.‏ أرقتني تلك اللحظة طويلا‏:‏ أن تقفز ذكري من رحم الماضي لتضحي حقيقة‏,‏ أن يستيقظ الأموات وما كانت ميتة‏,‏ ولكنني كطفل صغير كان ينتظر لعبته المفضلة التي وعدوه بها‏.‏ أثمرت الشجرة أحجارا أو حنظلا؟مدت يديها بلهجة محايدة وعين أقرب الي النعاس‏:‏ ياه‏,‏ إزيك‏.‏هكذا ببساطة هويت الي أسفل‏.‏ جلمود الصخر‏,‏ وما هوبصخر ـ تدحرج حتي سفح الجبل‏.‏ أطالع العينين الصافيتين المدهشتين فإذ بالنظرة رمادية‏.‏ الشعر القصير اللامع الغافي اختفي تحت حجاب ارتدته علي عجل‏.‏ الحاجبان الرفيعان المستقيمان صبغا‏,‏ وسقطت شعيراتهما‏.‏ التجاعيد سحبت معها التماعة الوجه وحيوية اللحاظ‏.‏ كرش صغير لم يفلح ثوبها الواسع في إخفائه‏.‏ أصباغ وضعت علي عجل فبدا الوجه فجا‏,‏ اللغة بدت سوقية فقدت جاذبيتها‏.‏ في زمن مولي عندما كنا نتنفس المظاهرات‏,‏ ونتعاطي المنشورات السياسية كحبوب مخدرة‏,‏ كان عصفوري يزقزق لا تلامس اصابعه الأرض بل يطير‏,‏ وكانت خطواتها تتفجر حيوية‏,‏ ورأسها مليئا بالثورة والحب‏.‏هل عشقت سرابا؟ وهل الصورة التي خبأتها بعناية في كتاب قديم ولت مع أيامها‏!‏فقدت ايقاع الترقب‏,‏ وبدا خمر الائتناس والتلاقي مغشوشا‏.‏ لم تفلح جلبة زملاء الدفعة ـ المصحوبين بأبنائهم ـ في أن تمتص خيبتي‏.‏ وعندما كان حضن يسلمك الي حضن‏,‏ ووجنات الي غيرها‏,‏ والضحكات تتقافز كفقاعات ملونة ينفخها طفل‏,‏ كنت أرمق ساعتي بضجر وأتمني لو ينتهي المشهد كله فجأة‏.‏هل انسحبت قبل الموعد‏,‏ أم هربت من حقيقة صادمة؟أشفقت علي سنين ضاعت وأنا أحاور فتاتي‏,‏ أو بالأحري أحاور طيفها بدا تحول المدينة مفضيا الي خيبات أشد‏.‏لماذا أخرجتني يا أفلاطون من كهف الأوهام‏.‏ مثلما لايطيق البعض الظلام لا يحتمل البعض الآخر ضوء الشمس والحقيقة الساطعة‏.‏ لو اعدتني يا أفلاطون الي الكهف مرة أخري فهل سأفضي للآخرين بمرارة الحقيقة أم أتركهم في غيهم يعمهون‏!‏تتكاثر وجوه المدينة‏:‏ وجه الغواية‏,‏ ووجه الزيف‏,‏ ووجه المراوغة‏.‏تبحث عن صوت أم كلثوم في سهرة الأول من الشهر من المذياع أو التلفاز‏,‏ فتفتقده‏.‏ وعندما يسمع محدثك اصداء أغنيتها المنطلقة عندك وهو يحدثك في الهاتف يعلق بسخرية‏.‏وعندما يعرض التلفاز فيلما لحليم أو لليلي مراد مأخوذا لتشاهده‏,‏ ولكن زمن الأبيض والأسود يتلاشي مسلما إياك الي زمن ملون فقد النكهة والطعم‏.‏تحاول تحديد توقيت تكون خيط الشرنقة الأول‏.‏ وفاة صلاح جاهين أم وفاة أبيك‏!‏ حالة التقزز التي انتابتك والمرأة الخصم تجلس بجوارك في مطعم فلفلة‏,‏ وسط فج زاحف من الحدود المجاورة‏.‏ ربما كان خيط شرنقة الأسي بدأ مع وفاة عبد الوهاب البياتي أو كمال الطويل‏.‏ ربما ابعد قليلا عندما اكتشفوا مكان رفات جيفارا فنقلوه ليدفن في كوبا في احتفال مهيب لست متأكدا‏.‏ اهتدي الي توقيت آخر عندما لاحظت أن محلات الأطعمة حوطت فيلاعبد الناصر بمنشية البكري في تخطيط يفتقد المصادفة‏.‏يستدعي توقيتا آخر عندما شاهد السياسي المخضرم بجسده الضخم وصوته الأجش يملأ شاشة التلفاز في بث لجلسة برلمانية‏.‏تصهرك دائرة الارتباط في محاولتك استدعاء التوقيت المحدد لتلبسك حالة السأم قراءة خبر وفاة علي محسن لاعبك اليمني المفضل في فريق الزمالك القديم‏.‏ تتذكر ايضا عندما هاتفك صديقك القديم محمود بعد سنوات من الصمت ليوصيك علي ابنة شقيقه‏,‏ التي عينت حديثا في قسمك‏.‏يشظيك شك الحسم‏.‏ ذات يوم أمسكت بلوحة رسمتها في الصف الخامس بمدرستك الابتدائية‏.‏ كنت ترسم معركة حربية بين جيشنا وجيش الأعداء‏.‏ ربما التبس الأمر عليك بعد هذه السنين فلم تميز نحن من هم‏.‏تبذل جهدا هائلا في التركيز والاطباق علي ذاكرتك‏.‏تراوغك الذاكرة الخؤون فتسلمك الي مشهد فارق‏.‏ سلمك صديقك الحميم مصطفي مذكراته التي أسماها قبل الزهايمر وأوصاك أن تنشرها بعد رحيله‏,‏ ألا تنتابك الآن حالة زهايمر مشابهة في محاولتك اليائسة للإمساك بطائر التحول‏.‏تسأل الموظفة الجديدة في قسمك سؤالا عابرا‏:‏ أين تقطنين؟تلقي اليك بكرة ملتهبة تتفاداها فتقفز الي فمك وتسده‏.‏أجابت‏,‏ فتكتشف انها تقيم في بناية شيدت مكان منزلك الذي ولدت فيه‏.‏ لايترك لك الزمن الخادع حتي سعادة الذكري فيسلبك اياها‏.‏تود أن تسألها عن التوءم الذي كانت يقطن البناية المقابلة لبنايتها‏.‏ عاطفة المراهقة ووجيب الفؤاد وحلاوة العشق‏.‏ تخفي سرك في سرك فتلوذ بصمت السلامة ولا تزيد‏.‏واقعة أخري بإمكانها أن تريحك‏.‏ عندما قرأت في صفحة الحوادث عن مصرع صديق طفولتك عبد الفتاح‏.‏ كان عائدا من صلاة الفجر بميدان الجيش عندما وضع قدمه في ماء مكهرب‏.‏ ترك عمال الكهرباء الحفرة مفتوحة وانفجرت ماسورة المياه فجأة فحولت المكان الي مصيدة قاتلة‏.‏ هكذا نموت في مدينتنا ميتات مجانية‏.‏الصديق الذي كان يعدو اسرع منا جميعا مثل نحلة أو نمر خانته عضلاته فاستسلم للصدمة الصاعقة‏.‏تراقب منحني الاسعار المختل‏,‏ ويبدو ناسك يصارعون وحشا خفيا أطبق علي الجميع‏.‏ تتعلمون فن الرقص والمشي علي الحبال لعلكم تدركون نقطة التوازن‏,‏ بلا فائدة‏.‏ ذات يوم اكتشف في الشارع الهادئ الذي يقطن فيه حقنة للتعاطي ملقاة علي الأرض‏.‏ راقب الأمر فلاحظ أن العدد يزيد‏.‏ ينظر في وجوه الشباب الذين يعترضون طريق محاولا التخمين‏,‏ ومعرفة اصحاب تلك الحقن‏.‏ وفي شوارع أخري‏.‏ وأحياء قريبة وبعيدة زادت الاعداد فبدا وباء يحصد الشباب‏.‏يجيئك أبوك في المنام مرتديا جلباب الصلاة النظيف‏.‏ـ تكلم يا أبي‏.‏ـ‏..............‏ـ هل قصرت معك في مرضك؟ـ‏..............‏ـ هل تمنحني رضاك أم عقوقي؟ـ‏.............‏صحبني أبي قبل أربعين عاما فوق كوبري قصر النيل رائحين غادين حتي نكل‏.‏ تكرر الأمر في ايام الجمعة‏.‏ نصحني معالجي الطبيب الشهير د‏.‏ مصطفي الجنزوري أن أشم هواء نقيا‏.‏؟ بدا الأمر ترفيا‏,‏ وكيف يتغيب عن عمله ليصطحبني الي اقاربنا بالمدينة الشمالية يحوطني بذراعيه الحنونتين‏.‏ كان اشعث الصدر‏.‏ لعله السعال الديكي أو النزلة الشعابية أقفز كضفدعة من الألم‏.‏ أبصق دما‏.‏ الرجل العابس دوما كاد يتداعي اثناء مرضي عندما دفناه‏,‏ لاحظنا قبرا خاليا بجوار قبره‏.‏ حفرة فارغة تنتظر صاحبها‏.‏ ينظر أخي رءوف وكأنه يسألني عمن يصيبه الدور‏.‏ تبدو الحفرة أقصر من طول أخي الفارع‏,‏ تبدو ملاءمة لي‏.‏يشكو أخي الأصغر هشام من أن أباينا لا يأتيه في أحلامه‏.‏ يحسدني‏.‏يعذبني صمت الوجه الخاشع‏.‏ آه‏,‏ لو نطق بكلمة واحدة لأراح البال المكدود‏.‏وعندما تصل أم كلثوم في أغنية ولد الهدي الي مقطع‏(‏ فإذا رحمت فأنت أم أو أب‏,‏ هذان في الدنيا هما الرحماء‏),‏ يخونني تجلدي فأنتحب نم قرير العين يارجل‏,‏ فليس زمنك‏.‏وجوه تفد من الشرق الي منتجع شرم الشيخ تتأمل الوجه المكتنز لكبيرهم فتشتاق أنت ورئتاك الي هواء نقي حتي لا تختنقا‏.‏تقطع كوبري قصر النيل مرارا‏.‏ خطواتك اصبحت أبطأ تحدق في الماء‏,‏ وتتشمم الهواء باحثا عن أنفاس أبيك في المكان‏.‏شقيقك الأكبر الذي عاد من الحرب بجسد مرشق بالطلقات‏,‏ لم ينل منه العدو بل نال منه تحول المجتمع واستدارة شمسه‏.‏ سئم الجميع وجوههم ورفعوا أقنعة تناسب المرحلة‏.‏ بحث لنفسه عن موطئ قدم فلم يجد‏.‏ لم يشفع له جسده المثخن بالجراح‏.‏اليوم تحول الي تاجر عملة يعرف الوان الأسواق‏:‏ البيضاء والسوداء والحمراء‏.‏لكن نبوته‏:‏ المال‏,‏ والنفوذ‏,‏ والواسطة‏,‏ وسوق النخاسة‏.‏ غيرت مدينة المعز ثوبها‏:‏ مدينة الأحلام‏,‏ ومدينة الجولف‏,‏ ومدينة الروابي الخضر‏.‏هجر الكبار المدينة الي مدن جيدة لا يخالطون فيها الحرافيش‏.‏ مساكن اشبه بالقصور‏,‏ عظيمة الأبواب والأسوار‏.‏ حمامات سباحة‏,‏ وملاعب للجولف‏,‏ كلاب للحراسة‏.‏زحفت مدارس ابناء الكبار خارج المدينة ايضا‏.‏ تكتب اللغة في فصولها من الشمال الي اليمين‏,‏ ملاعب الفروسية‏,‏ وحمامات سباحة‏,‏ وحدائق أندلسية عملاقة‏.‏لاحظ أن الكثيرين من معارفه مؤخرا توقفوا عن شراء الصحف والاستماع الي نشرة الأخبار‏.‏سأل نفسه‏:‏ هل يكفي تغريد عصفور واحد للإيذان بقدوم الربيع‏.‏يكثر غناء العصافير في مدينته‏:‏ أغان وطنية كالمطر‏,‏ وأغاني كليب عارية لراقصين لا مطربين‏.‏ يبحث عن العلاقة بين هزيمة منتخب الكرة القومي وزيادة الأغاني العارية‏,‏ وانتشار محلات السيراميك الفاخر‏.‏ لا تزال أشياء صغيرة تبهجه في المدينة‏:‏ صوت فاروق شوشه في لغتنا الجميلة من الإذاعة‏.‏ تواشيح النقشبندي ومسحراتي فؤاد حداد في رمضان‏.‏ برنامج عالم الحيوان في تلفاز الجمعة‏.‏أفلام اسماعيل ياسين بسذاجتها الساحرة‏.‏اجتاح المدينة هوس أجهزة المحمول‏.‏ تقاسمت اعباء الدروس الخصوصية‏,‏ ونفقات المحمول الإجهاز علي عافية الدخل‏.‏لماذا يستثني الأمس من التحول الذي عصف بالجميع؟يحاول الامساك بنقطة التحول التي أسكنته الكآبة والشجن‏.‏منذ أيام انتبهوا فجرا علي صوت ارتطام ثقيل بالشراع‏.‏ عثروا علي جثة لواء بالمعاش يسكن بالبناية المقابلة‏.‏ ادركته كآبة علي مايبدو بعد وفاة زوجته وزواج ابنيه وابتعادهما‏.‏ لاح طيف سؤال محلق‏:‏ هل سيدركه مصير مماثل‏.‏يحاول الإمساك بلحظة التمنصل‏.‏ أكانت قراءة خبر رحيل المطرب الشعبي محمد رشدي بالصحيفة‏.‏ لم يثمن غيره أن يغني في حفل زفافه‏,‏ وبدا صوته طالعا من طمي الأرض وزلعة المش وطرح النهر‏.‏